الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
في التفريق بين التعليق الذي يقصد به الإيقاع والذي يقصد به اليمين فالأول: أن يكون مريدًا للجزاء عند الشرط، وإن كان الشرط مكروها له، لكنه إذا وجد الشرط فإنه يريد الطلاق؛ لكون الشرط أكره إليه من الطلاق؛ فإنه وإن كان يكره طلاقها، ويكره الشرط. لكن إذا وجد الشرط فإنه يختار طلاقها، مثل أن يكون كارها للتزوج بامرأة بغي أو فاجرة أو خائنة أو هو لا يختار طلاقها، لكن إذا فعلت هذه الأمور، اختار طلاقها، فيقول: إن زنيت أو سرقت أو خنت فأنت طالق. ومراده إذا فعلت ذلك أن يطلقها، إما عقوبة لها، وإما كراهة لمقامه معها /على هذا الحال، فهذا موقع للطلاق عند الصفة؛ لاحالف، ووقوع الطلاق في مثل هذا هو المأثور عن الصحابة، كابن مسعود؛ وابن عمر؛ وعن التابعين وسائر العلماء ـ وما علمت أحدًا من السلف قال في مثل هذا: إنه لا يقع به الطلاق، ولكن نازع في ذلك طائفة من الشيعة، وطائفة من الظاهرية. وهذا ليس بحالف، ولا يدخل في لفظ اليمين المكفرة الواردة في الكتاب والسنة، ولكن من الناس من سمى هذا حالفا، كما أن منهم من يسمي كل معلق حالفًا، ومن الناس من يسمي كل منجز للطلاق حالفًا، وهذه الاصطلاحات الثلاثة ليس لها أصل في اللغة، ولا في كلام الشارع، ولا كلام الصحابة، وإنما سمى ذلك يمينًا لما بينه وبين اليمين من القدر المشترك عند المسمي وهو ظنه وقوع الطلاق عند الصفة. وأما التعليق الذي يقصد به اليمين فيمكن التعبير عن معناه بصيغة القسم، بخلاف النوع الأول فإنه لا يمكن التعبير عن معناه بصيغة القسم. وهذا القسم إذا ذكره بصيغة الجزاء فإنما يكون إذا كان كارهًا للجزاء، وهو أكره إليه من الشرط، فيكون كارهًا للشرط، وهو للجزاء أكره، ويلتزم أعظم المكروهين عنده ليمتنع به من أدني المكروهين، فيقول: إن فعلت كذا فامرأتي طالق أو عبيدي أحرار. أو على الحج، ونحو ذلك. أو يقول لامرأته: إن زنيت أو سرقت أو خنت، فأنت طالق يقصد زجرها أو تخويفها باليمين، لا إيقاع الطلاق إذا فعلت؛ لأنه يكون مريدًا لها وإن /فعلت ذلك؛ لكون طلاقها أكره إليه من مقامها على تلك الحال، فهو علق بذلك لقصد الحظر والمنع، لا لقصد الإيقاع، فهذا حالف ليس بموقع. وهذا هو الحالف في الكتاب والسنة، وهو الذي تجزئه الكفارة. والناس يحلفون بصيغة القسم، وقد يحلفون بصيغة الشرط التي في معناها، فإن علم هذا وهذا سواء باتفاق العلماء. والله أعلم.
وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ بعد أن ذكر مبني أحكام أصول الدين على ثلاثة أقسام: الكتاب والسنة والإجماع، وتقدم.
والطلاق نوعان: نوع أباحه الله، ونوع حرمه. فالذي أباحه أن يطلقها إذا كانت ممن تحيض بعد أن تطهر من الحيض قبل أن يطأها، ويسمي [طلاق السنة] فإن كانت ممن لا تحيض طلقها أي وقت شاء، أو يطلقها حاملاً قد تبين حملها، فإن طلقها بالحيض، أو في طهر بعد أن وطأها، كان هذا طلاقًا محرماً بإجماع المسلمين. وفي وقوعه قولان للعلماء، والأظهر أنه لا يقع. /وطلاق السنة المباح: إما أن يطلقها طلقة واحدة ويدعها حتى تنقضي العدة فتبين، أو يراجعها في العدة. فإن طلقها ثلاثًا، أو طلقها الثانية، أو الثالثة في ذلك الطهر، فهذا حرام، وفاعله مبتدع عند أكثر العلماء ـ كمالك، وأبي حنيفة، وأحمد في المشهور عنه ـ وكذلك إذا طلقها الثانية والثالثة قبل الرجعة أو العقد عند مالك وأحمد في ظاهر مذهبه وغيرهما، ولكن هل يلزمه واحدة، أو ثلاث؟ فيه قولان: قيل: يلزمه الثلاث، وهو مذهب الشافعي، والمعروف من مذهب الثلاثة. وقيل: لا يلزمه إلا طلقة واحدة، وهو قول كثير من السلف والخلف، وقول طائفة من أصحاب مالك وأبي حنيفة، وهذا القول أظهر. وقد ثبت في صحيح مسلم عن ابن عباس قال: كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرًا من خلافة عمر: طلاق الثلاث واحدة. وفي مسند الإمام أحمد بإسناد جيد عن ابن عباس: أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته ثلاثًا في مجلس واحد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هي واحدة)، ولم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد ثابت أنه ألزم بالثلاث لمن طلقها جملة واحدة. وحديث ركانة الذي يروي فيه أنه طلقها البتة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم سأله، وقال: (ما أردت إلا واحدة؟) ضعيف عند أئمة الحديث، ضعفه أحمد، والبخاري، وأبو عبيد، وابن حزم، بأن رواته ليسوا موصوفين بالعدل والضبط. وبين أحمد أن الصحيح في حديث ركانة أنه طلقها ثلاثاً وجعلها واحدة. وقد بسطنا الكلام في غير هذا الموضع. والله أعلم. /وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله: إذا حلف الرجل يمينًا من الأيمان، فالأيمان ثلاثة أقسام: أحدها: ما ليس من أيمان المسلمين، وهو الحلف بالمخلوقات ـ كالكعبة والملائكة، والمشايخ، والملوك والآباء؛ وتربتهم، ونحو ذلك ـ فهذه يمين غير منعقدة، ولا كفارة فيها باتفاق العلماء، بل هي منهي عنها باتفاق أهل العلم والنهي نهي تحريم في أصح قوليهم. ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت)، وقال: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم) وفي السنن عنه أنه قال: (من حلف بغير الله فقد أشرك). والثاني: اليمين بالله تعالى كقوله: والله لأفعلن. فهذه يمين منعقدة فيها الكفارة إذا حنث فيها باتفاق المسلمين. وأيمان المسلمين التي هي في معنى الحلف بالله مقصود الحالف بها تعظيم الخالق ـ لا الحلف بالمخلوقات ـ كالحلف بالنذر، والحرام، والطلاق، والعتاق، كقوله: إن فعلت كذا فعلى صيام شهر أو الحج إلى بيت الله، أو الحل على حرام لا أفعل كذا، أو إن فعلت كذا فكل ما أملكه حرام. أو الطلاق يلزمنى لأفعلن كذا، أو لا أفعله. أو إن /فعلته فنسائي طوالق، وعبيدي أحرار، وكل ما أملكه صدقة، ونحو ذلك، فهذه الأيمان للعلماء فيها ثلاثة أقوال: قيل: إذا حنث لزمه ما علقه وحلف به. وقيل: لا يلزمه شيء. وقيل: يلزمه كفارة يمين. ومنهم من قال: الحلف بالنذر يجزيه فيه الكفارة، والحلف بالطلاق والعتاق يلزمه ما حلف به. وأظهر الأقوال، وهو القول الموافق للأقوال الثابتة عن الصحابة وعليه يدل الكتاب والسنة والاعتبار: أنه يجزئه كفارة يمين في جميع أيمان المسلمين، كما قال الله تعالى: /وأما إذا قصد إيقاع الطلاق على الوجه الشرعي، مثل أن ينجز الطلاق فيطلقها واحدة في طهر لم يصبها فيه، فهذا يقع به الطلاق باتفاق العلماء، وكذلك إذا علق الطلاق بصفة يقصد إيقاع الطلاق عندها، مثل أن يكون مريدًا للطلاق إذا فعلت أمرًا من الأمور، فيقول لها: إن فعلته فأنت طالق. قصده أن يطلقها إذا فعلته، فهذا مطلق يقع به الطلاق عند السلف وجماهير الخلف، بخلاف من قصده أن ينهاها ويزجرها باليمين. ولو فعلت ذلك الذي يكرهه لم يجز أن يطلقها، بل هو مريد لها وإن فعلته، لكنه قصد اليمين لمنعها عن الفعل، لا مريدًا أن يقع الطلاق وإن فعلته، فهذا حالف لا يقع به الطلاق في أظهر قولي العلماء من السلف والخلف. بل يجزئه كفارة يمين، كما تقدم.
والطلاق الذي يقع بلا ريب هو: الطلاق الذي أذن الله فيه وأباحه، وهو أن يطلقها في الطهر قبل أن يطأها، أو بعد ما يبين حملها، طلقة واحدة. /فأما الطلاق المحرم مثل أن يطلقها في الحيض، أو يطلقها بعد أن يطأها وقبل أن يبين حملها؛ فهذا الطلاق محرم باتفاق العلماء. وكذلك إذا طلقها ثلاثًا بكلمة أو كلمات في طهر واحد، فهو محرم عند جمهور العلماء. وتنازعوا فيما يقع بها، فقيل: يقع بها الثلاث. وقيل: لا يقع بها إلا طلقة واحدة، وهذا هو الأظهر الذي يدل عليه الكتاب والسنة، كما قد بسط في موضعه. وكذلك الطلاق المحرم في الحيض وبعد الوطء: هل يلزم؟ فيه قولان للعلماء، والأظهر أنه لا يلزم، كما لا يلزم النكاح المحرم، والبيع المحرم. وقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر: طلاق الثلاث واحدة. وثبت ـ أيضًا ـ في مسند أحمد أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته ثلاثًا في مجلس واحد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هي واحدة) ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف هذه السنة، بل ما يخالفها إما أنه ضعيف، بل مرجوح. وإما أنه صحيح لا يدل على خلاف ذلك، كما قد بسط ذلك في موضعه. والله أعلم.
الطلاق منه طلاق سنة أباحه الله تعالى، وطلاق بدعة حرمه الله. فطلاق السنة أن يطلقها طلقة واحدة إذا طهرت من الحيض قبل أن يجامعها، أو يطلقها حاملاً قد تبين حملها. فإن طلقها وهي حائض، أو وطئها وطلقها بعد الوطء قبل أن يتبين حملها، فهذا طلاق محرم بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين. وتنازع العلماء: هل يلزم؟ أو لا يلزم؟ على [قولين]: والأظهر أنه لا يلزم. وإن طلقها ثلاثًا بكلمة، أو بكلمات في طهر واحد قبل أن يراجعها مثل أن يقول: أنت طالق ثلاثًا. أو: أنت طالق ألف طلقة. أو: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. ونحو ذلك من الكلام، فهذا حرام عند جمهور العلماء من السلف والخلف، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وظاهر مذهبه. وكذلك لو طلقها ثلاثًا قبل أن تنقضي عدتها، فهو ـ أيضًا ـ حرام عند الأكثرين، وهو مذهب مالك وأحمد في ظاهر مذهبه. وأما السنة، إذا طلقها طلقة واحدة لم يطلقها الثانية حتى يراجعها في العدة، أو يتزوجها بعقد جديد بعد العدة، فحينئذ له أن يطلقها الثانية، /وكذلك الثالثة، فإذا طلقها الثالثة كما أمر الله ورسوله حرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره. وأما لو طلقها الثلاث طلاقًا محرمًا، مثل أن يقول لها: أنت طالق ثلاثة جملة واحدة، فهذا فيه قولان للعلماء أحدهما: يلزمه الثلاث. والثاني: لا يلزمه إلا طلقة واحدة، وله أن يرتجعها في العدة، وينكحها بعقد جديد بعد العدة، وهذا قول كثير من السلف والخلف، وهو قول طائفة من أصحاب مالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل، وهذا أظهر القولين؛ لدلائل كثيرة: منها ما ثبت في الصحيح عن ابن عباس قال: كان الطلاق الثلاث على عهد رسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر واحدة. ومنها ما رواه الإمام أحمد وغيره بإسناد جيد عن ابن عباس: أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته ثلاثًا في مجلس واحد، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إنما هي واحدة وردها عليه)، وهذا الحديث قد ثبته أحمد بن حنبل وغيره. وضعف أحمد وأبو عبيد وابن حزم وغيرهم ما روي أنه طلقها البتة، وقد استحلفه (ما أردت إلا واحدة؟)، فإن رواة هذا مجاهيل لا يعرف حفظهم وعدلهم، ورواة الأول معروفون بذلك، ولم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد مقبول أن أحدًا طلق امرأته ثلاثًا بكلمة واحدة فألزمه الثلاث، بل روي في ذلك أحاديث كلها كذب باتفاق أهل العلم، ولكن جاء في أحاديث صحيحة إن فلانًا طلق امرأته ثلاثًا. أي: ثلاثًا متفرقة. وجاء: إن الملاعن طلق ثلاثًا، وتلك امرأة لا سبيل له إلى رجعتها، بل هي /محرمة عليه سواء طلقها أو لم يطلقها، كما لو طلق المسلم امرأته إذا أرتدت ثلاثًا. وكما لو أسلمت امرأة اليهودي فطلقها ثلاثًا، أو أسلم زوج المشركة فطلقها ثلاثًا. وإنما الطلاق الشرعي أن يطلق من يملك أن يرتجعها أو يتزوجها بعقد جديد، والله أعلم.
إذا حلف الرجل بالحرام فقال: الحرام يلزمنى لا أفعل كذا. أو الحل على حرام لا أفعل كذا، أو ما أحل الله على حرام إن فعلت كذا. أو ما يحل للمسلمين يحرم على إن فعلت كذا. أو نحو ذلك، وله زوجة: ففي هذه المسألة نزاع مشهور بين السلف والخلف، ولكن القول الراجح أن هذه يمين من الأيمان لا يلزمه بها طلاق، ولو قصد بذلك الحلف بالطلاق. وهذا مذهب الإمام أحمد المشهور عنه حتى لو قال: أنت على حرام ونوي به الطلاق لم يقع به الطلاق عنده. ولو قال: أنت على كظهر أمي وقصد به الطلاق، فإن هذا لا يقع به الطلاق عند عامة العلماء، وفي ذلك أنزل الله القرآن، فإنهم كانوا يعدون الظهار طلاقًا، والإيلاء طلاقًا، فرفع الله ذلك كله، وجعل في الظهار الكفارة الكبري، وجعل الإيلاء يمينًا يتربص فيها الرجل أربعة أشهر: فإما أن يمسك بمعروف، أو يسرح بإحسان. كذلك قال كثير من السلف والخلف: إنه إذا كان مزوجًا فحرم امرأته أو حرم الحلال مطلقاً كان مظاهرًا، وهذا مذهب أحمد. وإذا حلف بالظهار والحرام لا يفعل شيئا وحنث /في يمينه أجزأته الكفارة في مذهبه، لكن قيل: إن الواجب كفارة ظهار وسواء حلف، أو أوقع، وهو المنقول عن أحمد. وقيل: بل إن حلف به أجزأه كفارة يمين. وإن أوقعه لزمه كفارة ظهار. وهذا أقوي وأقيس على أصول أحمد وغيره. فالحالف بالحرام يجزيه كفارة يمين، كما يجزئ الحالف بالنذر إذا قال: إن فعلت كذا فعلى الحج. أو مإلى صدقة. كذلك إذا حلف بالعتق يجزئه كفارة عند أكثر السلف من الصحابة والتابعين، وكذلك الحلف بالطلاق يجزئ فيه ـ أيضًا ـ كفارة يمين كما أفتى به جماعة من السلف والخلف، والثابت عن الصحابة لا يخالف ذلك. بل معناه يوافقه. فكل يمين يحلف بها المسلمون في أيمانهم ففيها كفارة يمين، كما دل عليه الكتاب والسنة. وأما إذا كان مقصود الرجل أن يطلق أو أن يعتق أو أن يظاهر، فهذا يلزمه ما أوقعه، سواء كان منجزاً أو معلقًا، ولا يجزئه كفارة يمين. والله سبحانه أعلم.
فأجاب: أما قوله لها: أنت طالق ثلاثًا وهي حائض، فهي مبنية على أصلين: أحدهما: أن الطلاق في الحيض محرم بالكتاب والسنة والإجماع، فإنه /لا يعلم في تحريمه نزاع، وهو طلاق بدعة. وأما طلاق السنة: أن يطلقها في طهر لا يمسها فيه، أو يطلقها حاملاً قد استبان حملها، فإن طلقها في الحيض، أو بعد ما وطئها وقبل أن يستبين حملها له، فهو طلاق بدعة، كما قال تعالى: وأما جمع الطلقات الثلاث، ففيه قولان: أحدهما: محرم ـ أيضًا ـ عند أكثر العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه. واختاره أكثر أصحابه، وقال أحمد: تدبرت القرآن فإذا كل طلاق فيه فهو الطلاق الرجعي ـ يعني طلاق المدخول بها ـ غير قوله: والقول الثاني: أن جمع الثلاث ليس بمحرم؛ بل هو ترك الأفضل وهو مذهب الشافعي، والرواية الأخرى عن أحمد، اختارها الخرقي. واحتجوا بأن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها أبو حفص بن المغيرة ثلاثًا، وبأن امرأة رفاعة طلقها زوجها ثلاثًا، وبأن الملاعن طلق امرأته ثلاثًا، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. وأجاب الأكثرون بأن حديث فاطمة وامرأة رفاعة إنما طلقها ثلاثًا متفرقات، هكذا ثبت في الصحيح أن الثالثة آخر ثلاث تطليقات، لم يطلق ثلاثًا لا هذا ولا هذا مجتمعات. وقول الصحابي: طلق ثلاثًا، يتناول ما إذا طلقها ثلاثًا متفرقات، بأن يطلقها ثم يراجعها، ثم يطلقها ثم يراجعها، ثم يطلقها. وهذا طلاق سني واقع باتفاق الأئمة، وهو المشهور على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى الطلاق ثلاثًا. وأما جمع الثلاث بكلمة، فهذا كان منكرًا عندهم، إنما يقع قليلاً، فلا يجوز حمل اللفظ المطلق على القليل المنكر دون الكثير الحق، ولا يجوز أن يقال: يطلق مجتمعات لا هذا ولا هذا؛ بل هذا قول بلا دليل، بل هو بخلاف الدليل. وأما الملاعن فإن طلاقه وقع بعد البينونة، أو بعد وجوب الإبانة التي تحرم بها المرأة أعظم مما يحرم بالطلقة الثالثة، فكان مؤكدًا لموجب اللعان / والنزاع إنما هو في طلاق من يمكنه إمساكها، لا سيما والنبي صلى الله عليه وسلم قد فرق بينهما، فإن كان ذلك قبل الثلاث لم يقع بها ثلاث ولا غيرها وإن كان بعدها دل على بقاء النكاح. والمعروف أنه فرق بينهما بعد أن طلقها ثلاثًا، فدل ذلك على أن الثلاث لم يقع بها؛ إذ لو وقعت لكانت قد حرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره، وامتنع حينئذ أن يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما؛ لأنهما صارا أجنبيين، ولكن غاية ما يمكن أن يقال: حرمها عليه تحريمًا مؤبدًا، فيقال: فكان ينبغي أن يحرمها عليه لا يفرق بينهما، فلما فرق بينهما دل على بقاء النكاح، وأن الثلاث لم تقع جميعًا، بخلاف ما إذا قيل: إنه يقع بها واحدة رجعية فإنه يمكن فيه حينئذ أن يفرق بينهما، وقول سهل بن سعد: طلقها ثلاثًا، فأنفذه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على أنه احتاج إلى إنفاذ النبي صلى الله عليه وسلم، واختصاص الملاعن بذلك، ولو كان من شرعه أنها تحرم بالثلاث لم يكن للملاعن اختصاص ولا يحتاج إلى إنفاذ، فدل على أنه لما قصد الملاعن بالطلاق الثلاث أن تحرم عليه أنفذ النبي صلى الله عليه وسلم مقصوده، بل زاده، فإن تحريم اللعان أبلغ من تحريم الطلاق؛ إذ تحريم اللعان لا يزول وإن نكحت زوجًا غيره، وهو مؤبد في أحد قولي العلماء لا يزول بالتوبة. واستدل الأكثرون بأن القرآن العظيم يدل على أن الله لم يبح إلا الطلاق الرجعي، وإلا الطلاق للعدة، كما في قوله تعالى: وقد قال تعالى: وقد قال الله تعالى: وسبب ذلك أن الأصل في الطلاق الحظر وإنما أبيح منه قدر الحاجة كما ثبت في الصحيح عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن إبليس ينصب عرشه على البحر، ويبعث سراياه، فأقربهم إليه منزلة أعظمهم فتنة، فيأتيه الشيطان فيقول: ما زلت به حتى فعل كذا، حتى يأتيه الشيطان فيقول: ما زلت به حتى فرقت بينه وبين امرأته، فيدنيه منه، ويقول: أنت! أنت! ويلتزمه). وقد قال ـ تعالى ـ في ذم السحر: الأصل الثاني: أن الطلاق المحرم الذي يسمي طلاق البدعة إذا أوقعه الإنسان هل يقع، أم لا؟ فيه نزاع بين السلف والخلف. والأكثرون يقولون بوقوعه مع القول بتحريمه. وقال آخرون: لا يقع. مثل طاووس، وعكرمة. وخِلاَس، وعمر، ومحمد بن إسحاق، وحجاج ابن أرطاة، وأهل الظاهر /كداود، وأصحابه. وطائفة من أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد، ويروي عن أبي جعفر الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وغيرهما من أهل البيت، وهو قول أهل الظاهر: داود وأصحابه، لكن منهم من لا يقول بتحريم الثلاث. ومن أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد من عرف أنه لا يقع مجموع الثلات إذا أوقعها جميعاً، بل يقع منها واحدة، ولم يعرف قوله في طلاق الحائض، ولكن وقوع الطلاق جميعاً قول طوائف من أهل الكلام والشيعة. ومن وهؤلاء وهؤلاء من يقول: إذا أوقع الثلاث جملة لم يقع به شيء أصلاً، لكن هذا قول مبتدع لا يعرف لقائله سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وطوائف من أهل الكلام والشيعة، لكن ابن حزم من الظاهرية لا يقول بتحريم جمع الثلاث، فلذا يوقعها، وجمهورهم على تحريمها، وأنه لا يقع إلا واحدة. ومنهم من عرف قوله في الثلاث ولم يعرف قوله في الطلاق في الحيض، كمن ينقل عنه من أصحاب أبي حنيفة ومالك. وابن عمر روي عنه من وجهين أنه لا يقع. وروي عنه من وجوه أخرى أشهر وأثبت: أنه يقع. وروي ذلك عن زيد. وأما جمع الثلاث فأقوال الصحابة فيها كثيرة مشهورة: روي الوقوع فيها عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وأبي هريرة. وعمران بن حصين، وغيرهم. وروي عدم الوقوع فيها عن أبي بكر، وعن عمر صدرًا من خلافته، وعن علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس أيضًا، وعن الزبير، وعبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنهم أجمعين. /قال أبو جعفر أحمد بن مغيث في كتابه الذي سماه المقنع في أصول الوثائق. وبيان ما في ذلك من الدقائق: وطلاق البدعة أن يطلقها ثلاثًا في كلمة واحدة، فإن فعل لزمه الطلاق. ثم اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق كم يلزمه من الطلاق؟ فقال علي بن أبي طالب وابن مسعود ـ رضي الله تعالى عنهما ـ: يلزمه طلقة واحدة، وكذا قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وذلك لأن قوله: ثلاثًا لا معنى له: لأنه لم يطلق ثلاث مرات؛ لأنه إذا كان مخبرًا عما مضى فيقول: طلقت ثلاث مرات، يخبر عن ثلاث طلقات أتت منه في ثلاثة أفعال كانت منه، فذلك يصح. ولو طلقها مرة واحدة فقال: طلقتها ثلاث مرات لكان كاذبًا، وكذلك لو حلف بالله ثلاثًا يردد الحلف كانت ثلاثة أيمان، وأما لو حلف بالله فقال: أحلف بالله ثلاثًا لم يكن حلف إلا يميناً واحدة، والطلاق مثله. قال: ومثل ذلك قال الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف روينا ذلك كله عن ابن وضَّاح ـ يعني الإمام محمد بن وضَّاح الذي يأخذ عن طبقة أحمد بن حنبل وابن أبي شيبة ويحيي ابن معين وسحنون بن سعيد وطبقتهم ـ قال: وبه قال من شيوخ قرطبة ابن زنباع شيخ هدي، ومحمد بن عبد السلام الحسيني فقيه عصره، وابن بقي بن مخلد، وأصبغ بن الحباب، وجماعة سواهم من فقهاء قرطبة. وذكر هذا عن بضعة عشر فقيها من فقهاء طليطلة المتعبدين على مذهب مالك بن أنس. قلت: وقد ذكره التلمساني رواية عن مالك، وهو قول محمد بن مقاتل الرازي من أئمة الحنفية، حكاه عن المازني وغيره، وقد ذكر هذا رواية عن /مالك، وكان يفتي بذلك أحيانًا الشيخ أبو البركات ابن تيمية، وهو وغيره يحتجون بالحديث الذي رواه مسلم في صحيحه وأبو داود وغيرهما عن طاوس، عن ابن عباس أنه قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا أمرًا كان لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم. وفي رواية: أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك! ألم يكن طلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدة؟ قال: قد كان ذلك. فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأمضاه عليهم وأجازه. والذين ردوا هذا الحديث تأولوه بتأويلات ضعيفة، وكذلك كل حديث فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم ألزم الثلاث بيمين أوقعها جملة، أو أن أحدًا في زمنه أوقعها جملة فألزمه بذلك: مثل حديث يروي عن علي، وآخر عن عبادة بن الصامت، وآخر عن الحسن عن ابن عمر، وغير ذلك، فكلها أحاديث ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث، بل هي موضوعة، ويعرف أهل العلم بنقد الحديث أنها موضوعة، كما هو مبسوط في موضعه. وأقوي ما ردوه به أنهم قالوا: ثبت عن ابن عباس من غير وجه أنه أفتى بلزوم الثلاث. /وجواب المستدلين أن ابن عباس روي عنه من طريق عكرمة ـ أيضًا ـ أنه كان يجعلها واحدة، وثبت عن عكرمة عن ابن عباس ما يوافق حديث طاووس مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وموقوفاً على ابن عباس، ولم يثبت خلاف ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالمرفوع أن ركانة طلق امرأته ثلاثًا، فردها عليه النبي صلى الله عليه وسلم. قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده: حدثنا سعيد بن إبراهيم، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة مولي ابن عباس، قال: طلق ركانة بن عبد يزيد ـ أخو بني المطلب ـ امرأته ثلاثًا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنًا شديدًا قال: فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف طلقتها؟) قال: فقال: طلقتها ثلاثًا. قال: (في مجلس واحد؟) قال: نعم. قال: (فإنها تلك واحدة فارجعها إن شئت). قال: فراجعها. وكان ابن عباس يقول: إنما الطلاق عند كل طهر. قلت: وهذا الحديث قال فيه ابن اسحاق: حدثني داود ـ وداود من شيوخ مالك ورجال البخاري؛ وابن إسحاق ـ إذا قال: حدثني. فهو ثقة عند أهل الحديث. وهذا إسناد جيد، وله شاهد من وجه آخر رواه أبو داود في السنن، ولم يذكر أبو داود هذا الطريق الجيد؛ فلذلك ظن أن تطليقه واحدة بائنا أصح، وليس الأمر كما قاله، بل الإمام أحمد رجح هذه الرواية على تلك، وهو كما قال أحمد. وقد بسطنا الكلام على ذلك في موضع آخر. /وهذا المروي عن ابن عباس في حديث ركانة من وجهين، وهو رواية عكرمة عن ابن عباس من وجهين عن عكرمة، وهو أثبت من رواية عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة ونافع بن عجين: أنه طلقها البتة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم استحلفه، فقال: ما أردت إلا واحدة. فإن هؤلاء مجاهيل لا تعرف أحوالهم، وليسوا فقهاء، وقد ضعف حديثهم أحمد بن حنبل وأبو عبيد، وابن حزم، وغيرهم. وقال أحمد بن حنبل: حديث ركانة في البتة ليس بشيء. وقال ـ أيضا ـ: حديث ركانة لا يثبت أنه طلق امرأته البتة؛ لأن ابن إسحاق يرويه عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أن ركانة طلق امرأته ثلاثا، وأهل المدينة يسمون ثلاثا البتة. فقد استدل أحمد على بطلان حديث البتة بهذا الحديث الآخر الذي فيه أنه طلقها ثلاثا، وبين أن أهل المدينة يسمون من طلق ثلاثا طلق البتة، وهذا يدل على ثبوت الحديث عنده، وقد بينه غيره من الحفاظ، وهذا الإسناد وهو قول ابن إسحاق: حدثني داود ابن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: هو إسناد ثابت عن أحمد وغيره من العلماء. وبهذا الإسناد روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على زوجها بالنكاح الأول، وصحح ذلك أحمد وغيره من العلماء. وابن إسحاق إذا قال: حدثني، فحديثه صحيح عند أهل الحديث إنما يخاف عليه التدليس إذا عنعن، وقد روي أبو داود في سننه هذا عن ابن عباس من وجه آخر، وكلاهما يوافق حديث طاوس عنه، وأحمد كان يعارض حديث طاوس بحديث فاطمة بنت قيس: أن زوجها طلقها ثلاثا، ونحوه. /وكان أحمد يري جمع الثلاث جائزا، ثم رجع أحمد عن ذلك، وقال: تدبرت القرآن فرجدت الطلاق الذي فيه هو الرجعي. أو كما قال، واستقر مذهبه على ذلك، وعليه جمهور أصحابه، وتبين من حديث فاطمة أنها كانت مطلقة ثلاثا متفرقات، لا مجموعة، وقد ثبت عنده حديثان عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن من جمع ثلاثا لم يلزمه إلا واحدة. وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يخالف ذلك، بل القرآن يوافق ذلك، والنهي عنده يقتضي الفساد، فهذه النصوص والأصول الثابتة عنه تقتضي من مذهبه أنه لا يلزمه إلا واحدة، وعدوله عن القول بحديث ركانة وغيره كان أولاً لما عارض ذلك عنده من جواز جمع الثلاث، فكان ذلك يدل على النسخ ثم إنه رجع عن المعارضة، وتبين له فساد هذا المعارض، وأن جمع الثلاث لا يجوز، فوجب على أصله العمل بالنصوص السالمة عن المعارض، وليس يعل حديث طاوس بفتيا ابن عباس بخلافه، وهذا علمه في إحدى الروايتين عنه، ولكن ظاهر مذهبه الذي عليه أصحابه أن ذلك لا يقدح في العمل بالحديث، لا سيما وقد بين ابن عباس عذر عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في الإلزام بالثلاث. وابن عباس عذره هو العذر الذي ذكره عن عمر ـ رضي الله عنه ـ وهو أن الناس لما تتابعوا فيما حرم الله عليهم استحقوا العقوبة على ذلك، فعوقبوا بلزومه، بخلاف ما كانوا عليه قبل ذلك، فإنهم لم يكونوا مكثرين من فعل المحرم. /وهذا كما أنهم لما أكثروا شرب الخمر واستخفوا بحدها كان عمر يضرب فيها ثمانين، وينفي فيها، ويحلق الرأس، ولم يكن ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكما قاتل على بعض أهل القبلة ولم يكن ذلك على عهد النبي، والتفريق بين الزوجين هو مما كانوا يعاقبون به أحيانا: إما مع بقاء النكاح، وإما بدونه. فالنبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الثلاثة الذين خلفوا وبين نسائهم حتى تاب الله عليهم من غير طلاق، والمطلق ثلاثا حرمت عليه امرأته حتى تنكح زوجا غيره عقوبة له ليمتنع عن الطلاق، وعمر بن الخطاب ـ ومن وافقه كمالك وأحمد في إحدى الروايتين ـ حرموا المنكوحة في العدة على الناكح أبدًا؛ لأنه استعجل ما أحله الله فعوقب بنقيض قصده، والحكمان لهما عند أكثر السلف أن يفرقا بينهما بلا عوض إذا رأيا الزوج ظالما معتديا، لما في ذلك من منعه من الظلم ودفع الضرر عن الزوجة، ودل على ذلك الكتاب والسنة والآثار، وهو قول مالك وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، وإلزام عمر بالثلاث لما أكثروا منه: إما أن يكون رآه عقوبة تستعمل وقت الحاجة، وإما أن يكون رآه شرعًا لازما، لاعتقاده أن الرخصة كانت لما كان المسلمون لا يوقعونه إلا قليلاً. وهكذا كما اختلف كلام الناس في نهيه عن المتعة: هل كان نهي اختيار؛ لأن إفراد الحج بسفرة والعمرة بسفرة كان أفضل من التمتع؟ أو كان قد نهي عن الفسخ؛ لاعتقاده أنه كان مخصوصا بالصحابة؟ وعلى التقديرين، فالصحابة قد /نازعوه في ذلك، وخالفه كثير من أئمتهم من أهل الشوري وغيرهم: في المتعة وفي الإلزام بالثلاث. وإذا تنازعوا في شيء وجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، كما أن عمر كان يري أن المبتوتة لا نفقة لها ولا سكني، ونازعه في ذلك كثير من الصحابة، وأكثر العلماء على قولهم، وكان هو وابن مسعود يريان أن الجنب لا يتيمم، وخالفهما عمار وأبو موسي وابن عباس وغيرهم من الصحابة، وأطبق العلماء على قول هؤلاء، لما كان معهم الكتاب والسنة، والكلام على هذا كثير مبسوط في موضع آخر. والمقصود هنا التنبيه على ما أخذ الناس به. والذين لا يرون الطلاق المحرم لازما يقولون: هذا هو الأصل الذي عليه أئمة الفقهاء ـ كمالك، والشافعي وأحمد، وغيرهم ـ وهو: أن إيقاعات العقود المحرمة لا تقع لازمة: كالبيع المحرم، والنكاح المحرم، والكتابة المحرمة؛ ولهذا أبطلوا نكاح الشغار، ونكاح المحلل، وأبطل مالك وأحمد البيع يوم الجمعة عند النداء، وهذا بخلاف الظهار المحرم، فإن ذلك نفسه محرم، كما يحرم القذف، وشهادة الزور، واليمين الغموس، وسائر الأقوال التي هي في نفسها محرمة، فهذا لا يمكن أن ينقسم إلى صحيح وغير صحيح، بل صاحبها يستحق العقوبة بكل حال، فعوقب المظاهر بالكفارة، ولم يحصل ما قصده به من الطلاق، فإنهم كانوا يقصدون به الطلاق وهو موجب لفظه، فأبطل الشارع ذلك؛ لأنه قول محرم، وأوجب فيه الكفارة. أما الطلاق فجنسه مشروع ـ كالنكاح والبيع ـ فهو يحل تارة، ويحرم تارة، /فينقسم إلى صحيح وفاسد، كما ينقسم البيع والنكاح. والنهي في هذا الجنس يقتضي فساد المنهي عنه، ولما كان أهل الجاهلية يطلقون بالظهار فأبطل الشارع ذلك؛ لأنه قول محرم، كان مقتضي ذلك أن كل قول محرم لا يقع به الطلاق وإلا فهم كانوا يقصدون الطلاق بلفظ الظهار، كلفظ الحرام، وهذا قياس أصل الأئمة ـ مالك، والشافعي، وأحمد. ولكن الذين خالفوا قياس أصولهم في الطلاق خالفوه لما بلغهم من الآثار، فلما ثبت عندهم عن ابن عمر أنه اعتد بتلك التطليقة التي طلق امرأته وهي حائض قالوا: هم أعلم بقصته، فاتبعوه في ذلك. ومن نازعهم يقول: مازال ابن عمر وغيره يروون أحاديث ولا تأخذ العلماء بما فهموه منها؛ فإن الاعتبار بما رووه؛ لا بما رأوه وفهموه. وقد ترك جمهور العلماء قول ابن عمر الذي فسر به قوله: (فاقدروا له)، وترك مالك وأبو حنيفة وغيرهما تفسيره لحديث البيعين بالخيار. مع أن قوله هو ظاهر الحديث. وترك جمهور العلماء تفسيره لقوله: /ولما ثبت عندهم عن أئمة الصحابة أنهم ألزموا بالثلاث المجموعة قالوا: لا يلزمون بذلك إلا وذلك مقتضي الشرع، واعتقد طائفة لزوم هذا الطلاق وأن ذلك إجماع؛ لكونهم لم يعلموا خلافا ثابتًا، لا سيما وصار القول بذلك معروفا عن الشيعة الذين لم ينفردوا عن أهل السنة بحق. قال المستدلون: هؤلاء الذين هم بعض الشيعة وطائفة من أهل الكلام يقولون: جامع الثلاث لا يقع به شيء، هذا القول لا يعرف عن أحد من السلف، بل قد تقدم الإجماع على بعضه وإنما الكلام هل يلزمه واحدة، أو يقع ثلاثا؟ والنزاع بين السلف في ذلك ثابت لا يمكن رفعه، وليس مع من جعل ذلك شرعًا لازما للأمة حجة يجب اتباعها من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، وإن كان بعضهم قد احتج على هذا بالكتاب، وبعضهم بالسنة، وبعضهم بالإجماع، وقد احتج بعضهم بحجتين أو أكثر من ذلك، لكن المنازع يبين أن هذه كلها حجج ضعيفة، وأن الكتاب والسنة والاعتبار إنما تدل على نفي اللزوم، وتبين أنه لا إجماع في المسألة، بل الآثار الثابتة عمن ألزم بالثلاث مجموعة عن الصحابة تدل على أنهم لم يكونوا يجعلون ذلك مما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته شرعا لازما، كما شرع تحريم المرأة بعد الطلقة الثالثة، بل كانوا مجتهدين في العقوبة بإلزام ذلك إذا كثر ولم ينته الناس عنه. /وقد ذكرت الألفاظ المنقولة عن الصحابة تدل على أنهم ألزموا بالثلاث لمن عصي الله بإيقاعها جملة، فأما من كان يتقي الله فإن الله يقول: ونكاح التحليل لم يكن ظاهرًا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه، ولم ينقل قط أن امرأة أعيدت بعد الطلقة الثالثة على عهدهم إلى زوجها بنكاح تحليل، بل لعن النبي صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له ولعن آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه ولم يذكر في التحليل الشهود ولا الزوجة ولا الولي؛ لأن التحليل الذي كان يفعل كان مكتوما بقصد المحلل أو يتواطأ عليه هو والمطلق المحلل له. والمرأة ووليها لا يعلمون قصده، ولو علموا لم يرضوا أن يزوجوه؛ فإنه من أعظم المستقبحات والمنكرات عند الناس؛ ولأن عاداتهم لم تكن بكتابة الصداق في كتاب، ولا إشهاد عليه، بل كانوا يتزوجون ويعلنون النكاح، ولا يلتزمون أن يشهدوا عليه شاهدين وقت العقد، كما هو /مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الإشهاد على النكاح حديث صحيح. هكذا قال أحمد بن حنبل وغيره. فلما لم يكن على عهد عمر ـ رضي الله عنه ـ تحليل ظاهر، ورأي في إنفاذ الثلاث زجرا لهم عن المحرم، فعل ذلك باجتهاده. أما إذا كان الفاعل لا يستحق العقوبة، وإنفاذ الثلاث يفضي إلى وقوع التحليل المحرم ـ بالنص وإجماع الصحابة والاعتقاد ـ وغير ذلك من المفاسد لم يجز أن يزال مفسدة حقيقة بمفاسد أغلظ منها بل جعل الثلاث واحدة في مثل هذا الحال كما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر أولي؛ ولهذا كان طائفة من العلماء مثل أبي البركات يفتون بلزوم الثلاث في حال دون حال، كما نقل عن الصحابة. وهذا: إما لكونهم رأوه من باب التعزير الذي يجوز فعله بحسب الحاجة، كالزيادة على أربعين في الخمر والنفي فيه، وحلق الرأس. وإما لاختلاف اجتهادهم، فرأوه تارة لازما. وتارة غير لازم. وبالجملة، فما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته شرعا لازما، إنما لا يمكن تغييره؛ لأنه لا يمكن نسخ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن يظن بأحد من علماء المسلمين أن يقصد هذا، لاسيما الصحابة، لاسيما الخلفاء الراشدون، وإنما يظن ذلك في الصحابة أهل الجهل والضلال، كالرافضة والخوارج الذين يكفرون بعض الخلفاء أو يفسقونه، ولو قدر أن أحدًا فعل ذلك، /لم يقره المسلمون على ذلك؛ فإن هذا إقرار على أعظم المنكرات، والأمة معصومة أن تجتمع على مثل ذلك، وقد نقل عن طائفة ـ كعيسي بن أبان وغيره من أهل الكلام والرأي من المعتزلة وأصحاب أبي حنيفة ومالك ـ أن الإجماع ينسـخ به نصوص الكتاب والسنة، وكنا نتأول كلام هؤلاء على أن مرادهم أن الإجماع يدل على نص ناسخ، فوجدنا من ذكر عنهم أنهم يجعلون الإجماع نفسه ناسخا، فإن كانوا أرادوا ذلك، فهذا قول يجوز تبديل المسلمين دينهم بعد نبيهم، كما تقول النصاري من أن المسيح سوغ لعلمائهم أن يحرموا ما رأوا تحريمه مصلحة، ويحلوا ما رأوا تحليله مصلحة، وليس هذا دين المسلمين ولا كان الصحابة يسوغون ذلك لأنفسهم. ومن اعتقد في الصحابة أنهم كانوا يستحلون ذلك فإنه يستتاب كما يستتاب أمثاله، ولكن يجوز أن يجتهد الحاكم والمفتي فيصيب فيكون له أجران، ويخطئ فيكون له أجر واحد. وما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم شرعا معلقا بسبب إنما يكون مشروعا عند وجود السبب، كإعطاء المؤلفة قلوبهم، فإنه ثابت بالكتاب والسنة. وبعض الناس ظن أن هذا نسخ لما روي عن عمر: أنه ذكر أن الله أغني عن التألف، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وهذا الظن غلط. ولكن عمر استغني في زمنه عن إعطاء المؤلفة قلوبهم، فترك ذلك لعدم الحاجة إليه، لا لنسخه، كما لو فرض أنه عدم في بعض الأوقات ابن السبيل، والغارم، ونحو ذلك. /ومتعة الحج قد روي عن عمر أنه نهي عنها، وكان ابنه عبد الله بن عمر وغيره يقولون: لم يحرمها، وإنما قصد أن يأمر الناس بالأفضل، وهو أن يعتمر أحدهم من دويرة أهله في غير أشهر الحج؛ فإن هذه العمرة أفضل من عمرة المتمتع والقارن باتفاق الأئمة، حتى إن مذهب أبي حنيفة وأحمد منصوص عنه: أنه إذا اعتمر في غير أشهر الحج وأفرد الحج في أشهره، فهذا أفضل من مجرد التمتع والقران، مع قولهما بأنه أفضل من الإفراد المجرد. ومن الناس من قال: إن عمر أراد فسخ الحج إلى العمرة، قالوا: إن هذا محرم به لا يجوز، وأن ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه من الفسخ كان خاصا بهم، وهذا قول كثير من الفقهاء، كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي. وآخرون من السلف والخلف ـ قابلوا هذا، وقالوا: بل الفسخ واجب، ولا يجوز أن يحج أحد إلا متمتعًا: مبتدأ، أو فاسخا، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في حجة الوداع، وهذا قول ابن عباس وأصحابه ومن اتبعه من أهل الظاهر والشيعة. والقول الثالث: أن الفسخ جائز، وهو أفضل. ويجوز ألا يفسخ، وهو قول كثير من السلف والخلف، كأحمد بن حنبل وغيره من فقهاء الحديث، ولا يمكن الإنسان أن يحج حجة مجمعا عليها إلا أن يحج متمتعا ابتداء من غير فسخ. فأما حج المفرد والقارن، ففيه نزاع معروف بين السلف والخلف كما تنازعوا في جواز الصوم في السفر، وجواز الإتمام في السفر، ولم يتنازعوا في جواز الصوم والقصر في الجملة. /وعمر لما نهي عن المتعة خالفه غيره من الصحابة، كعمران بن حصين، وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس، وغيرهم، بخلاف نهيه عن متعة النساء فإن عليا وسائر الصحابة وافقوه على ذلك، وأنكر على على ابن عباس إباحة المتعة، قال: إنك امرؤ تائه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم متعة النساء، وحرم لحوم الحمر الأهلية عام خيبر، فأنكر علي بن أبي طالب على ابن عباس إباحة الحمر، وإباحة متعة النساء؛ لأن ابن عباس كان يبيح هذا وهذا، فأنكر عليه على ذلك، وذكر له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم المتعة، وحرم الحمر الأهلية، ويوم خيبر كان تحريم الحمر الأهلية. وأما تحريم المتعة فإنه عام فتح مكة، كما ثبت ذلك في الصحيح. وظن بعض الناس أنها حرمت، ثم أبيحت، ثم حرمت، فظن بعضهم أن ذلك ثلاثا، وليس الأمر كذلك. فقول عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أنفذناه عليهم فأنفذه عليهم، هو بيان أن الناس أحدثوا ما استحقوا عنده أن ينفذ عليهم الثلاث، فهذا إما أن يكون كالنهي عن متعة الفسخ؛ لكون ذلك كان ذلك مخصوصا بالصحابة وهو باطل؛ فإن هذا كان على عهد أبي بكر، ولأنه لم يذكر ما يوجب اختصاص الصحابة بذلك. وبهذا ـ أيضا ـ تبطل دعوي من ظن ذلك منسوخا كنسخ متعة النساء. وإن قدر أن عمر رأي ذلك لازما فهو اجتهاد منه اجتهده في المنع من فسخ الحج؛ لظنه أن ذلك كان خاصا، /وهذا قول مرجوح قد أنكره غير واحد من الصحابة، والحجة الثانية هي مع من أنكره. وهكذا الإلزام بالثلاث. من جعل قول عمر فيه شرعا لازما. قيل له: فهذا اجتهاده قد نازعه فيه غيره من الصحابة، وإذا تنازعوا في شيء وجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، والحجة مع من أنكر هذا القول المرجوح. وإما أن يكون عمر جعل هذا عقوبة تفعل عند الحاجة، وهذا أشبه الأمرين بعمر، ثم العقوبة بذلك يدخلها الاجتهاد من وجهين من جهة أن العقوبة بذلك: هل تشرع أم لا؟ فقد يري الإمام أن يعاقب بنوع لا يري العقوبة به غيره، كتحريق على الزنادقة بالنار، وقد أنكره عليه ابن عباس، وجمهور الفقهاء مع ابن عباس. ومن جهة أن العقوبة إنما تكون لمن يستحقها، فمن كان من المتقين استحق أن يجعل اللّه له فرجا ومخرجا، لم يستحق العقوبة. ومن لم يعلم أن جمع الثلاث محرم، فلما علم أن ذلك محرم تاب من ذلك اليوم ألا يطلق إلا طلاقا سنياً، فإنه من المتقين في باب الطلاق. فمثل هذا لا يتوجه إلزامه بالثلاث مجموعة، بل يلزم بواحدة منها، وهذه المسائل عظيمة. وقد بسطنا الكلام عليها في موضع آخر من مجلدين، وإنما نبهنا عليها هاهنا تنبيها لطيفًا. والذي يحمل عليه أقوال الصحابة أحد أمرين: إما أنهم رأوا ذلك من باب التعزير الذي يجوز فعله بحسب العادة، كالزيادة على أربعين في الخمر. وإما /لاختلاف اجتهادهم فرأوه لازما، وتارة غير لازم. وأما القول بكون لزوم الثلاث شرعًا لازمًا، كسائر الشرائع، فهذا لا يقوم عليه دليل شرعي. وعلى هذا القول الراجح لهذا الموقع أن يلتزم طلقة واحدة، ويراجع امرأته، ولا يلزمه شيء؛ لكونها كانت حائضًا، إذا كان ممن اتقى اللّه وتاب من البدعة.
|